لرزَقكُم كَما يرزُقُ الطَّيْرَ

شرح حديث عمرَ -رضي الله عنه- “لَوْ أنَّكم تتوكَّلونَ عَلَى اللهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزَقكُم كَما يرزُقُ الطَّيْرَ”

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث السادس في باب اليقين والتوكل، وهو حديث عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً))([1])، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

هذا الحديث أشرت إلى معناه في ليلة مضت عند الكلام على حديث: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير))، وقلنا: إن أحد معانيه هو أن هؤلاء يتوكلون على الله -تبارك وتعالى- توكلاً تاماً، ويفسره هذا الحديث: ((لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)).

((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله))، هنا علق ذلك بأمر ممكن، وهو أن يتم التوكل للإنسان، فيكون بهذه المثابة يرزقه الله -عز وجل- كما يرزق الطير.

((تغدو خماصاً))، بمعنى: أنها تخرج في أول النهار، خماصاً أي: أنها ضامرة البطون، ليس في بطونها شيء، تخرج في حال من الجوع، ثم تروح يعني: ترجع في آخر النهار إلى أوكارها، تروح بطاناً أي: ممتلئة البطون.

وهذا الحديث ليس معناه أن الإنسان يقعد عن العمل والتسبب والاكتساب، ثم ينتظر من الله -تبارك وتعالى- أن يرزقه، فإن هذا ليس هو المراد، بل كما قال الإمام البيهقي -رحمه الله-: هو أن الإنسان يبذل السبب، فهذه الطيور لا تبقى في أوكارها تنتظر رزق الله -تبارك وتعالى- فتمتلئ بطونها منه، وإنما هي تخرج في الصباح وتتسبب وتتكسب، ثم بعد ذلك ترجع إلى أوكارها في آخر النهار إذا كان الظلام.



 

فالإنسان الذي يتوكل على الله حق التوكل هو الإنسان الذي يرتبط قلبه بالله -عز وجل-، ويعلم أنه لا يكون في هذا الكون تحريكة أو تسكينة إلا بمشيئته وإرادته، وأن الاكتساب والغنى والتحصيل لا يكون بسبب ذكاء الإنسان، وما عنده من طاقة ومهارة وحرفة وصنعة، وما أشبه ذلك، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]، فهذا لا شك أنه انحراف في التصور والفهم والاعتقاد، وإنما يعتقد الإنسان أن الله -عز وجل- هو مسبب الأسباب، وأن أزمّة الأمور في يده، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والله قد أجرى سنته بأن يتوكل الإنسان، وأن يتسبب والله -تبارك وتعالى- يقدر لمن شاء ما شاء.

والله -عز وجل- يقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء:18]، فمن يشاؤه من الناس المعطَيْن، وما يشاؤه من العطاء -سبحانه وتعالى-، وكثير من الناس يتهافتون على الدنيا، ويقومون من أجلها، ومن أجلها يقعدون، ومن أجلها يحبون ويقرِّبون، ومن أجلها يبغضون، ومع ذلك لا يحصلون شيئاً يذكر، فليست المسألة هي بقدراتنا الذاتية، وإنما بما يقدره الله -عز وجل- لنا من الأرزاق، لكن يجب علينا أن نسعى، وأن نتوكل على الله في نفس الوقت، وإلا فإن الإنسان إذا انحرف في هذا المعنى فإنه قد يقعد عن العمل والاكتساب، ويقعد في بيته وينتظر متى يأتيه الرزق كما فعل ذلك بعضهم، ترك العمل وقعد عنه من أجل أن الله هو الرزاق، فليس هذا هو المعنى المراد.

وذُكر للإمام أحمد -رحمه الله- أن أحد هؤلاء المنحرفين كان يوضع الطعام في فمه، وكان لا يحرك فكه، باعتبار أنه متوكل على الله -تبارك وتعالى-، هذا خطأ، فهو لا يحرك فكه فكان يحتاج إلى من يحرك فكه من أجل أن يأكل، ثم هذا كيف سيكون مضغه للطعام؟، وإذا أراد أن يقضي الحاجة -أعزكم الله- كيف سيصنع؟

لماذا لا يتوكل على الله حق التوكل؟ إذا أراد أن ينام لماذا يضطجع؟ وإذا أراد أن يقوم لماذا ينهض، ويكون بعد ذلك محركاً لقدمه وهو يمشي وما أشبه هذا؟.

لماذا لا يتوكل على الله -عز وجل- فيتنقل من غير حركة؟، فلا شك أن هذه الأمور مخالفة للفطرة، ومخالفة للعقل، وتقتضي هذا التسلسل العجيب، بحيث إن الإنسان يصير لا يتحرك، بل حتى لو لم يتحرك نقول له: لماذا تقعد؟ لماذا لا تتوكل على الله -عز وجل-؟ فلماذا أنت تقيم نفسك بهذه الطريقة وتشد العصب والمفاصل، ثم بعد ذلك تعتمد هذا الاعتماد؟، لماذا لا تتوكل على الله -عز وجل- ويبقى الإنسان لا يحرك أصبعاً ولا يداً، وبالتالي لا يصلي، ولا يقوم، ولا يتوضأ، ولا يفعل شيئاً من الأشياء، فيكون بهذا تاركاً ومضيعاً لأمر الله -عز وجل- الديني والشرعي، مضيعاً لحقوقه، وأيضاً يكون قد خالف الفطرة، وخالف مقتضى العقل، ثم بعد ذلك خالف سنة الله -عز وجل- في هذه الحياة، وفي هذا الكون.

فالمقصود هو أن الإنسان يتوكل على الله، ويربط قلبه بالله، لكن يعلم أن ذلك ليس بمهارته ولا بذكائه، ثم لا يتهافت على الدنيا، فيتوجه قلبه إليها ويتعلق بها، ويركن إلى هذا الحطام الزائل، وإنما يعلم أن الأمور بيد الله -جل جلاله-، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا يريح قلبه كثيراً، فلا يتأسف على ما فاته منها، وما خسر من حطامها، أو ما لم يحصله من هذا المتاع الزائل، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزق عباده وفق علمه، وحكمته وبصره التام النافذ، والإنسان لا يدري أين الخير له، فما عليه إلا أن يبذل السبب والله -عز وجل- يرزق من شاء ما شاء.

وها نحن نرى الناس، منهم مَن بعملٍ بسيط يحصّل الملايين الطائلة بلحظات، ومنهم من يجلس طول العمر يشتغل ولا يحصل شيئاً يذكر، يتقلب بالفقر ظهراً لبطن، مع أنه مفتول العضلات، ولربما كان كامل الذكاء، وعنده من القُدَر والمهارات، ويقوم بدراسات، ومع ذلك هو من خسارة إلى خسارة، ومن خيبة إلى خيبة.

فالله -عز وجل- هو الذي يرزق.

هذا، وأسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

___________________________________________________________________

[1]- أخرجه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب في التوكل على الله (4/573)، رقم: (2344)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394)، رقم: (4164)، وأحمد (1/332)، رقم: (205).